فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال النسفي:

سورة الجمعة:
{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا في السماوات وَمَا في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم}
التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقة يعني إذا نظرت إلى كل شيء دلتك خلقته على وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن الأشباه، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كل شيء ما يعرف به الله تعالى وينزهه، ألا ترى إلى قوله: {وَإِن مّن شيء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كل جوهر من غير معرفة له بذلك {هُوَ الذي بَعَثَ} أرسل {في الأميين رَسُولًا مّنْهُمْ} أي بعث رجلًا أميًا في قوم أميين.
وقيل {مِنْهُمْ} كقوله: {مّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] يعلمون نسبه وأحواله.
والأمي منسوب إلى أمة العرب لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم.
وقيل: بدئت الكتابة بالطائف وهم أخذوها من أهل الحيرة وأهل الحيرة من أهل الأنبار {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياته} القرآن {وَيُزَكّيهِمْ} ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية {وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب} القرآن {والحكمة} السنة أو الفقه في الدين {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ} من قبل محمد صلى الله عليه وسلم {لَ في ضلال مُّبِينٍ} كفر وجهالة، و(أن) مخففة من الثقيلة واللام دليل عليها أي كانوا في ضلال لا ترى ضلالًا أعظم منه.
{وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ} مجرور معطوف على {الأميين} يعني أنه بعثه في الأميين الذين على عهده وفي آخرين من الأميين {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم، أو هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم الدين.
وقيل: هم العجم.
أو منصوب معطوف على المنصوب في {وَيُعَلّمُهُمُ} أي يعلمهم ويعلم آخرين لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندًا إلى أوله فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه {وَهُوَ العزيز الحكيم} في تمكينه رجلًا أميًا من ذلك الأمر العظيم وتأييده عليه واختياره إياه من بين كافة البشر {ذلك} الفضل الذي أعطاه محمدًا وهو أن يكون نبي أبناء عصره ونبي أبناء العصور الغوابر هو {فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} إعطاءه وتقتضيه حكمته {والله ذُو الفضل العظيم مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة} أي كلفوا علمها والعمل بما فيها {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} ثم لم يعملوا بها فكأنهم لم يحملوها {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَارًا} جمع سفر وهو الكتاب الكبير و{يَحْمِلُ} في محل النصب على الحال أو الجر على الوصف لأن الحمار كاللئيم في قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني

شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بآياتها، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به فلم يؤمنوا به بالحمار حمل كتبًا كبارًا من كتب العلم فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله {بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله} أي بئس مثلًا مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، أو بئس مثل القوم المكذبين مثلهم وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي وقت اختيارهم الظلم أو لا يهدي من سبق في علمه أنه يكون ظالمًا.
{قُلْ يا أيّها الذين هَادُواْ} هاد يهود إذا تهود {إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صادقين} كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه أي إن كان قولكم حقًا وكنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعًا إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه، ثم قال: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ} أي بسبب ما قدموا من الكفر.
ولا فرق بين (لا) و(لن) في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل إلا أن في (لن) تأكيدًا وتشديدًا ليس في (لا) فأتى مرة بلفظ التأكيد و{لَنْ يَتَمَنَّوْهُ} ومرة بغير لفظه و{لا يَتَمَنَّونَهُ} {والله عَلِيمٌ بالظالمين} وعيد لهم.
{قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم {فَإِنَّهُ ملاقيكم} لا محالة والجملة خبر (أن) ودخلت الفاء لتضمن الذي معنى الشرط {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب.
{يا أيّها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة} النداء الأذان و(من) بيان لـ: {إذا} وتفسير له، ويوم الجمعة سيد الأيام وفي الحديث: «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقى فتنة القبر» {فاسعوا} فامضوا وقرئ بها وقال الفراء: السعي والمضي والذهاب واحد وليس المراد به السرعة في المشي {إلى ذِكْرِ الله} أي إلى الخطبة عند الجمهور وبه استدل أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الخطيب إذا اقتصر على الحمد لله جاز {وَذَرُواْ البيع} أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا.
وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال فقيل له بادروا تجارة الآخرة واتركوا تجارة الدنيا واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح، وذروا البيع الذي نفعه يسير {ذلكم} أي السعي إلى ذكر الله {خَيْرٌ لَّكُمْ} من البيع والشراء {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} أي أديت {فانتشروا في الأرض} أمر إباحة {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} الرزق أو طلب العلم أو عيادة المريض أو زيارة أخ في الله {واذكروا الله كَثِيرًا} واشكروه على ما وفقكم لأداء فرضه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} تفرقوا عنك إليها وتقديره: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه خص التجارة لأنها كانت أهم عندهم.
رُوي أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشأم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقاموا إليه فما بقي معه إلا ثمانية أو اثنا عشر فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعًا لأضرم عليهم الوادي نارًا» وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق فهو المراد باللهو {وَتَرَكُوكَ} على المنبر {قَائِمًَا} تخطب، وفيه دليل على أن الخطيب ينبغي أن يخطب قائمًا {قُلْ مَا عِندَ الله} من الثواب {خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين} أي لا يفوتهم رزق الله بترك البيع فهو خيرالرازقين، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم}
{القدوس} ذكر في [الحشر: 24] {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولًا مِّنْهُمْ} يعني سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، والأميين: هم العرب، وقد ذكر معنى الأمي في [الأعراف: 157] {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} عطفًا على الأميين، وأراد بهؤلاء فارس «وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء الآخرون فأخذ بيد سليمان الفارسي، وقال: لو كان العلم بالثريا لناله رجال من هؤلاء» يعني فارس، وقيل: هم الروم، و{مِنْهُمْ} على هذين القولين، يريد به في البشرية وفي الدين، لا في النسب. وقيل؛ هم أهل اليمن وقيل: التابعون، وقيل: هم سائر المسلمين، والأول أرجح لوروده في الحديث الصحيح {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} أي لما يلحقوا بهم بالنفي وسيلحقون، وذلك أن {لَمَّا} لذكر الماضي القريب من الحال {ذَلِكَ فَضْلُ الله} إشارة إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهداية الناس به.
{مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة} يعني اليهود ومعنى حملوا التوراة كلفوا العمل بها والقيام بأوامرها ونواهيها {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} لم يطيعوا أمرها ولم يعملوا بها، شبههم الله بالحمار الذي يحمل الأسفار على ظهره، ولم يدر ما فيها {بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} يعني اليهود الذين كذبوا سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وهم الذين حملوا التوراة ولم يحملوها؛ لأن التوراة تنطق بنبوته صلى الله عليه وسلم، فكل من قرأها ولم يؤمن به فقد خالف التوراة {فَتَمَنَّوُاْ الموت} ذكر في [البقرة: 94].
{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} النداء للصلاة هو الأذان لها، ومن في قوله: {مِن يَوْمِ الجمعة} لبيان إذا، وتفسير له، وذكر الله: يراد به الخطبة والصلاة، ويتعلق بهذه الآية ثمان مسائل:
الأولى اختلف في الأذان للجمعة هل هو سنة كالأذان لسائر الصلوات؟ أو واجب لظاهر الآية لأنه شرط في السعي لها أن يكون عند الأذان، والسعي واجب فالأذان واجب.
الثانية كان الأذان للجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جدار المسجد وقيل: على باب المسجد وقيل: كان بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، وقد كان بنو أمية يأخذون بهذا، وبقي بقرطبة زمانًا وهو باق في المشرق إلى الآن. قال أبو محمد بن الفرس: قال مالك في المجموعة إن هشام بن عبد الملك هو الذي أحدث الأذان بين يديه قال: وهذا دليل على أن الحديث في ذلك ضعيف.
الثالث كان الأذان للجمعة واحدًا ثم زاد عثمان رضي الله عنه النداء على الزوراء ليسمع الناس. واختلف الفقهاء هل المستحب أن يؤذن فيها اثنان أو ثلاثة.
الرابعة: السعي في الآية بمعنى المشي لا بمعنى الجري، وقرأ عمر بن الخطاب: فامضوا إلى ذكر الله وهذا تفسير للسعي، فهو بخلاف السعي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نودي للصلاة فلا تأتونها وأنتم تسعون».
الخامسة: حضور الجمعة واجب، لحمل الأمر الذي في الآية على الوجوب باتفاق، إلا أنها لا تجب على المرأة ولا على الصبي ولا على المريض باتفاق، ولا على العبد والمسافر عند مالك والجمهور؛ خلافًا للظاهرية. وتعلقوا بعموم الآية وحجة الجمهور قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجمعة واجبة على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» وحجتهم في المسافر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقيم الجمعة في السفر، واختلف هل تسقط الجمعة بسب المطر أم لا؟ وهل يجوز للعروس التخلف عنها أم لا، والمشهور أنها لا تتتسقط عنه لعموم الآية، السادسة: اختلف متى يتعين الإقبال إلى الصلاة؟ فقيل: إذا زالت الشمس، وقيل: إذا أذن المؤذن وهو ظاهر الآية، السابعة: اختلف في الموضع الذي يجب منه السعي إلى الجمعة. فقيل: ثلاثة أميال وهو مذهب مالك، وقيل: ستة أميال وقيل: على من كان داخل المصر، وقيل: على من سمع النداء، وقيل: على من آواه الليل إلى أهله، الثامنة: اختلف في الوالي هل هو من شرط الجمعة أم لا؟ على قولين، والمشهور سقوطه لأن الله لم يشترطه في الآية.
{وَذَرُواْ البيع} أمر بترك البيع يوم الجمعة إذا أخذ المؤذنون في الأذان، وذلك على الوجوب، فيقتضي تحريم البيع، واختلف في البيع الذي يعقد في ذلك الوقت هل يفسخ أم لا؟ واختلف في بيع من لا تلزهم الجمعة من النساء والعبد هل يجوز في ذلك الوقت أم لا؟ والأظهر جوازه؛ لأنه إنما منع منه من يدعى إلى الجمعة {فانتشروا فِي الأرض} هذا الأمر للإباحة باتفاق، وحكى الإجماع على ذلك ابن عطية وابن الفرس {وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قيل: معناه طلب المعاش، فالأمر على هذا للإباحة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الفضل المبتغى عيادة مريض أو صلة صديق أو اتباع جنازة» وقيل: هو طلب العلم. وإن صح الحديث لم يعدل إلى سواه.
{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} سبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائمًا على المنبر يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عير من الشام بطعام، وصاحب أمرها دحية بن خليفة الكلبي، وكانت عادتهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والصياح سرورًا بها، فلما دخلت العير كذلك انفض أهل المسجد إليها، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا على المنبر، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلًا. قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم. وذكر بعضهم أن منهم العشرة المشهود لهم بالجنة، واختلف في الثاني عشر، فقيل: عبد الله بن مسعود، وقيل: عمار بن ياسر، وقيل: إنما بقي معه صلى الله عليه وسلم ثمانية وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء: «لقد كانت الحجارة سُوِّمت في السماء على المنفضين». وظاهر الآية يقتضي أن الجماعة شرط من الجمعة وهو مذهب مالك والجمهور، إلا أنهم اختلفوا في مقدار الجماعة الذي تنعقد بهم الجمعة؟ فقال مالك: ليس في ذلك عدد محدود، وإنما هم جماعة تقوم بهم قرية. وروى ابن الماجشون عن مالك ثلاثون. وقال الشافعي: أربعون. وقال أبو حنيفة: ثلاثة مع الإمام وقيل: اثنا عشر عدد الذي بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: لم قال انفضوا إليها بضمير المفرد وقد ذكر التجارة واللهو؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنه أراد انفضوا إلى اللهو وانفضوا إلى التجارة، ثم حذف أحدهما لدلالة الآخرة عليه. قاله الزمخشري. والآخر أنه قال ذلك مهتمًا بالتجارة إذ كانت أهم، وكانت هي سبب اللهو، ولم يكن اللهو سببها، قاله ابن عطية.
{وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا} اختلفوا في القيام في الخطبة هل هو وجب أم لا؟ وإذ قلنا بوجوبه فهل هو شرط فيها أم لا؟ فمن أوجبه واشترطه أخذ بظاهر الآية من ذكر القيام. ومن لم يوجبه رأى أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لم يكن على الوجوب. ومذهب مالك أن من سنة الخطبة الجلوس قبلها والجلوس بين الخطبتين، وقال أبو حنيفة: لا يجلس بين الخطبيتن لظاهر الآية وذكر القيام فيها دون الجلوس، وحجة مالك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم {قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} إن قيل: لم قدم اللهو هنا على التجارة وقدم التجارة قبل هذا على اللهو؟ فالجواب: أن كل واحد من الموضعين جاء على ما ينبغي فيه؛ وذلك أن العرب تارة يبتدئون بالأكثر ثم ينزلون إلى الأقل كقولك: فلان يخون في الكثير والقليل فبدأت بالكثير ثم أردفت عليه الخيانة فيما دونه، وتارة يبتدئون بالأقل ثم يرتقون إلى الأكثر كقولك: فلان أمين على القليل والكثير فبدأت بالقليل ثم أردفت عليه الأمانة فيما هو أكثر منه، ولو عكست في كل واحد من المثالين لم يكن حسنًا؛ فإنك لو قدمت في الخيانة القليل لعلم أنه يخون في الكثير.
من باب أولى وأحرى، ولو قدمت في الأمانة ذكر الكثير لعلم أنه أمين في القليل من باب أولى وأحرى، فلم يكن لذكره بعد ذلك فائدة وكذلك قوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا}. قدم التجارة هنا ليبين أنهم ينفضون إليها، وأنهم مع ذلك ينفضون إلى اللهو الذي هو دونها وقوله: {خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} قدم اللهو ليبين أن ما عند الله خير من اللهو، وأنه أيضًا خير من التجارة التي هي أعظم منه، ولو عكس كل واحد من الموضعين لم يحسن. اهـ.